الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الجامع لأحكام القرآن والمبين لما تضمنه من السنة وآي الفرقان المشهور بـ «تفسير القرطبي»
يريد: رجعن كلاكلا وصدورا، أي لم يبق إلا كلاكلها وصدورها. ومنه قول الآخر: أو مصدرا.
قال: فهل ترى بين ميت وميت فرقا، وأنشد: قال: فقد أجمعوا على أن هينون ولينون واحد، وكذا ميت وميت، وسيد وسيد. قال: {فَسُقْناهُ} بعد أن قال: {وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ} وهو من باب تلوين الخطاب.وقال أبو عبيدة: سبيله {فتسوقه}، لأنه قال: {فَتُثِيرُ سَحاباً}. الزمخشري: فإن قلت: لم جاء {فَتُثِيرُ} على المضارعة دون ما قبله وما بعده؟ قلت: لتحكي الحال التي تقع فيها إثارة الرياح السحاب، وتستحضر تلك الصورة البديعة الدالة على القدوة الربانية، وهكذا يفعلون بفعل فيه نوع تمييز وخصوصية بحال تستغرب، أو تهم المخاطب أو غير ذلك، كما قال تأبط شرا: لأنه قصد أن يصور لقومه الحالة التي تشجع فيها بزعمه على ضرب الغول، كأنه يبصرهم إياها، ويطلعهم على كنهها مشاهدة للتعجب. من جرأته على كل هول، وثباته عند كل شدة وكذلك سوق السحاب إلى البلد الميت، لما كانا من الدلائل على القدرة الباهرة قيل: {فسقنا} و{أحيينا} معدولا بهما عن لفظة الغيبة إلى ما هو أدخل في الاختصاص وأدل عليه. وقراءة العامة {الرِّياحَ}. وقرأ ابن محيصن وابن كثير والأعمش ويحيى وحمزة والكسائي {الريح} توحيدا. وقد مضى بيان هذه الآية والكلام فيها مستوفي. أي كذلك تحيون بعد ما متم، من نشر الإنسان نشورا. فالكاف في محل الرفع، أي مثل إحياء الأموات نشر الأموات. وعن أبي رزين العقيلي قال: قلت يا رسول الله، كيف يحيي الله الموتى، وما آية ذلك في خلقه؟ قال: «أما مررت بوادي أهلك ممحلا ثم مررت به يهتز خضرا» قلت: نعم يا رسول الله. قال: «فكذلك يحيي الله الموتى وتلك آياته في خلقه» وقد ذكرنا هذا الخبر في الأعراف وغيرها.
فمن كان يريد العزة لينال الفوز الأكبر، ويدخل دار العزة ولله العزة فليقصد بالعزة الله سبحانه والاعتزاز به، فإنه من اعتز بالعبد أذل الله، ومن اعتز بالله أعزه الله. قوله تعالى: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} فيه مسألتان الأولى: قوله تعالى: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ} وتم الكلام. ثم تبتدئ {وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} على معنى: يرفعه الله، أو يرفع صاحبه. ويجوز أن يكون المعنى: والعمل الصالح يرفع الكلم الطيب، فيكون الكلام متصلا على ما يأتي بيانه. والصعود هو الحركة إلى فوق، وهو العروج أيضا. ولا يتصور ذلك في الكلام لأنه عرض، لكن ضرب صعوده مثلا لقبوله، لان موضع الثواب فوق، وموضع العذاب أسفل.وقال الزجاج: يقال ارتفع الامر إلى القاضي أي علمه، فهو بمعنى العلم. وخص الكلام والطب بالذكر لبيان الثواب عليه. وقوله: {إِلَيْهِ} أي إلى الله يصعد.وقيل: يصعد إلى سمائه والمحل الذي لا يجري فيه لاحد غيره حكم.وقيل: أي يحمل الكتاب الذي كتب فيه طاعات العبد إلى السماء. و{الْكَلِمُ الطَّيِّبُ} هو التوحيد الصادر عن عقيدة طيبة.وقيل: هو التحميد والتمجيد، وذكر الله ونحوه. وأنشدوا: وقال ابن المقفع: قول بلا عمل، كثريد بلا دسم، وسحاب بلا مطر، وقوس بلا وتر. وفية قيل: وقرأ الضحاك {يصعد} بضم الياء. وقرا. جمهور الناس {الْكَلِمُ} جمع كلمة. وقرأ أبو عبد الرحمن {الكلام}. قلت: فالكلام على هذا قد يطلق بمعنى الكلم وبالعكس، وعليه يخرج قول أبي القاسم: أقسام الكلام ثلاثة، فوضع الكلام موضع الكلم، والله أعلم. {وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} قال ابن عباس ومجاهد وغيرهما: المعنى والعمل الصالح يرفع الكلم الطيب.وفي الحديث: «لا يقبل الله قولا إلا بعمل، ولا يقبل قولا وعملا إلا بنية، ولا يقبل قولا وعملا ونية إلا بإصابة السنة». قال ابن عباس: فإذا ذكر العبد الله وقال كلاما طيبا وادي فرائضه، ارتفع قوله مع عمله وإذا قال ابن قوله على عمله. قال ابن عطية: وهذا قول يرده معتقد أهل السنة ولا يصح عن ابن عباس. والحق أن العاصي التارك للفرائض إذا ذكر الله وقال كلاما طيبا فإنه مكتوب له متقبل منه، وله حسناته وعليه سيئاته، والله تعالى يتقبل من كل من أتقى الشرك. وأيضا فإن الكلام الطيب عمل صالح، وإنما يستقيم قول من يقول: إن العمل هو الرافع للكلم، بأن يتأول أنه يزيده في رفعه وحسن موقعه إذا تعاضد معه. كما أن صاحب الأعمال من صلاة وصيام وغير ذلك، إذا تخلل أعماله كلم طيب وذكر الله تعالى كانت الأعمال أشرف، فيكون قول: {وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} موعظة وتذكرة وحضا على الأعمال. وأما الأقوال التي هي أعمال في نفوسها، كالتوحيد والتسبيح فمقبولة. قال ابن العربي: إن كلام المرء بذكر الله إن لم يقترن به عمل صالح لم ينفع، لان من خالف قوله فعله فهو وبال عليه. وتحقيق هذا: أن العمل إذا وقع شرطا في قبول القول أو مرتبطا، فإنه لا قبول له إلا به وإن لم يكن شرطا فيه فإن كلمه الطيب يكتب له، وعمله السيئ يكتب عليه، وتقع الموازنة بينهما، ثم يحكم الله بالفوز والربح والخسران. قلت: ما قال ابن العربي تحقيق. والظاهر أن العمل الصالح شرط في قبول القول الطيب. وقد جاء في الآثار أن العبد إذا قال: لا إله إلا الله بنية صادقة نظرت الملائكة إلى عمله، فإن كان العمل موافقا لقوله صعدا جميعا، وإن كان عمله. مخالفا وقف قوله حتى يتوب من عمله. فعلى هذا العمل الصالح يرفع الكلم الطيب إلى الله. والكناية في {يَرْفَعُهُ} ترجع إلى الكلم الطيب. وهذا قول ابن عباس وشهر بن حوشب وسعيد بن جبير ومجاهد وقتادة وأبي العالية والضحاك. وعلي أن {الْكَلِمُ الطَّيِّبُ} هو التوحيد، فهو الرافع للعمل الصالح، لأنه لا يقبل العمل الصالح إلا مع الايمان والتوحيد. أي والعمل الصالح يرفعه الكلم الطيب، فالكناية تعود على العمل الصالح. وروي هذا القول عن شهر بن حوشب قال: {الْكَلِمُ الطَّيِّبُ} القرآن {وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} القرآن.وقيل: تعود على الله جل وعز، أي أن العمل الصالح يرفعه الله على الكلم الطيب، لان العمل تحقيق الكلم، والعامل أكثر تعبا من القائل، وهذا هو حقيقة الكلام، لان الله هو الرافع الخافض. والثاني والأول مجاز، ولكنه سائغ جائز. قال النحاس: القول الأول أولاها وأصحها لعلو من قال به، وأنه في العربية أولى، لان القراء على رفع العمل. ولو كان المعنى: والعمل الصالح يرفعه الله، أو العمل الصالح يرفعه الكلم الطيب، لكان الاختيار نصف العمل. ولا نعلم أحدا قرأه منصوبا إلا شيئا روي عن عيسى، بن عمر أنه قال: قرأه أناس {والعمل الصالح يرفعه الله}.وقيل: والعمل الصالح يرفع صاحبه، وهو الذي أراد العزة وعلم أنها تطلب من الله تعالى، ذكره القشيري.الثانية: ذكروا عند ابن عباس أن الكلب يقطع الصلاة، فقرأ هذه الآية: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ}. وهذا استدلال بعموم على مذهب السلف في القول بالعموم، وقد دخل في الصلاة بشروطها، فلا يقطعها عليه شيء إلا بثبوت ما يوجب ذلك، من مثل ما انعقدت به من قرآن أو سنة أو إجماع. وقد تعلق من رأى، ذلك بقوله عليه السلام: «يقطع الصلاة المرأة والحمار والكلب الأسود» فقلت: ما بال الكلب الأسود من الكلب الأبيض من الكلب الأحمر؟ فقال: «إن الأسود شيطان» خرجه مسلم. وقد جاء ما يعارض هذا، وهو ما خرجه البخاري عن ابن أخي ابن شهاب أنه سأل عمه عن الصلاة يقطعها شي؟ فقال: لا يقطعها شي، أخبرني عروة بن الزبير أن عائشة زوج النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالت: لقد كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقوم فيصلي من الليل، وإني لمعترضة بينه وبين القبلة على فراش أهله. قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئاتِ} ذكر الطبري في كتاب آداب النفوس: حدثني يونس بن عبد الأعلى قال حدثنا سفيان عن ليث بن أبي سليم عن شهر بن حوشب الأشعري في قوله عز وجل: {وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئاتِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولئِكَ هُوَ يَبُورُ} قال: هم أصحاب الرياء، وهو قول ابن عباس ومجاهد وقتادة.وقال أبو العالية: هم الذين مكروا بالنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما اجتمعوا في دار الندوة.وقال الكلبي: يعني الذين يعملون السيئات في السيئات في الدنيا مقاتل: يعني الشرك، فتكون {السَّيِّئاتِ} مفعولة. ويقال: بار يبور إذا هلك وبطل. وبارت السوق أي كسدت، ومنه: نعوذ بالله من بوار الأيم. وقوله: {وَكُنْتُمْ قَوْماً بُوراً} [الفتح: 12] أي هلكى. والمكر: ما عمل على سبيل احتيال وخديعة. وقد مضى في سبأ.
|